الحريات الصحفية في الجنوب .. تحديات ومصاعب وتفاؤل عظيم !!
من جوبا / تحقيق وترجمة وتصوير:
عبدالقادر محمد عبدالقادر
الاعلام بين الحرب والسلم :
أدت الحروبات التي اندلعت في جنوب السودان،واستمرت لما يقارب العقدين من الزمان، الي تدمير كافة البني التحتية والخدمات وخلفت ما خلفت من خسائر فادحة علي مستويات عديدة ، سواء في الأرواح أو الممتلكات او علي مستوي البيئة،وتدمير الحياة الطبيعية.
ولم يكن قطاع الاعلام بمنأي عن ما طال الجنوب من لعنة الحرب، وبعد توقيع اتفاق السلام في 2005م،بدأ ت الصحف والمجلات والإذاعات في تأسيس مقارها والعمل علي دعم السلام الذي يتوق اليه أبناء الاقليم الجنوبي الذين أرهقتهم الحرب.وبدأت صناعة الاعلام في الإزدهار والتطور.
وتوجد في جوبا وبقية مدن جنوب السودان الآن 8 صحف ،وأربعة مجلات ، و25 راديو ومحطة إذاعية محلية، وثلاث محطات تلفزة.
إلا ان هذه الوسائل الإعلامية المتعددة تواجهها الكثير من التحديات لتصبح وسائل اعلامية فاعلة في محيطها.وتعمل علي تلافي آثار الحرب ودعم العملية السلمية.
يقول تقرير (الإعلام في السودان علي مفترق طرق ، الذي أصدرته جمعية تطوير وسائل الاعلام بجنوب السودان (AMDISS) ، ومركز الخرطوم لحقوق الإنسان وشركائهم ) : أدي توقيع اتفاقية السلام الشامل في العام 2005 م إلي فتح مجال أمام مشاريع أكثر ديمقراطية للمؤسسات والممارسات الإعلامية كما وأثمرت عن عدد من التغييرات في وضع الإعلام في السودان .كان التطور ملحوظاً،لا سيما في الصحافة المطبوعة.لكن تواصلت العوائق الاساسية المُهددة للإعلام الحر والمستقل، مع تزايد مشاكل الرقابة والتحكم واضطهاد ومحاكمة الصحفيين وممثلي الإعلام.بالاضافة الي ذلك،فان مدي إتساع حرية التعبير عن الراي يرتبط بالاختلافات الاقليمية.فالمناخ السياسي في الشمال مختلف عن ذلك في الجنوب.علاوة علي ذلك،فإن النزاع في دارفور يقيد عمل الإعلاميين الناشطين في تلك المنطقة.
الحريات الصحفية .. الواقع والمأمول !
ومن خلال تواجدي بمدينة جوبا لمست الكثير من الاختلاف في المناخ السياسي بين الشمال والجنوب. هناك انفتاح الي حد معقول ، دعم ملاحظاتي هذه حديث الاستاذ تعبان موللي عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي ، الذي أكد لي : (اوضاع الحريات هنا افضل بكثير من الشمال)...أما في مجال الحريات الصحفية وحق التعبير ، فقد تحدثت الي الكثير من المهتمين ، وأكدوا لي توفر الحريات الصحفية الي حد معقول .. إلا ان ما شاهدته خلال تواجدي بمدينة جوبا ، وما عايشته يذهب الي خلاف ذلك ... وهناك ايضاً الكثير من المشكلات التي يعاني منها قطاع الاعلام هنا تتمثل في غياب التشريعات الصحفية وانعدام المطابع في جنوب السودان والتي تعتبر من أكبر التحديات التي يواجهها الصحفيين والصحفيات في الجنوب.بالإضافة الي حالات المضايقات المتفرقة التي يتعرض لها الصحفيون والصحفيات من قبل الاجهزة الامنية والشرطية ، والتي يعتبرونها حالات فردية ومنافية لسياسات حكومة الجنوب تجاه الحريات الصحفية.
قالت الحكومة ...!:
يعزي السيد غابريل شانغستون شانغ وزير الاعلام والاذاعة بحكومة الجنوب غياب القوانين والتشريعات الاعلامية الي عدم انتظام اجتماعات القطاع السيادي بمجلس الوزراء، إلاَّ أنه أكد اهتمام وزارته بأمر التشريعات الاعلامية قائلاً:بالأمس اتصلت بوزير الشئون القانونية بحكومة الجنوب واستعجلته اجازة قانون الصحافة.
وفيما يتعلق بقضايا الحريات الصحفية ،يقر شانغشتون بوجود حالات قليلة من المضايقات التي يتعرض لها الصحفيون.حيث يقول شانغستون:هنالك حالات نادرة للمضايقات التي يتعرض لها الصحفيين،لكن ليس لدينا اي توجيهات بممارسة ضغوط علي الصحافة والصحفيين ،ويضيف: لقد قمنا بمطالبة الجهات التي تضايق الصحفيين ان تكف عن مثل هكذا ممارسات.وقال شانغستون الذي كان يتحدث لـ ( الميدان ، ضمن لقاء مع مجموعة من الصحفيين ) : نحن لا نراقب الاعلام وذلك ايماناً منا باهمية دوره في الممارسة الديمقراطية ،بل نسعي الي تطوير هذا القطاع الهام. وأشار الي ان الصحفيين يقومون بالعديد من التجاوزات، قائلاً: هناك تجاوزات تحدث من الصحفيين ،لكن نحن قررنا ان نصبر علي ممارسات الصحافة السالبة الي ان يتم تدريب الصحفيين والي حين صدور التشريعات الملائمة التي تقنن عمل الصحافة.
وحول خطط وزارته لتطوير قطاع الاعلام ، قال السيد شانغستون: ستمتلك حكومة جنوب السودان قبل نهاية هذا العام مطبعة ،وستطبع الصحف في جوبا ، بدلاً عن ما يحدث الآن ، إذ يتم طباعة الصحف المحلية في الخرطوم أو كمبالا أو نيروبي. وقال :لدينا برنامج مشترك مع الـ (UNDP) وجهات اخري لانشاء مطبعة في جنوب السودان ، وتسير هذه الخطوات الي الامام بشكل جيد.وأردف قائلاً :هذا من ناحية اقتصادية يجعل تداول الاموال في نطاق الجنوب ،وسيسهم في تحسين الخدمات ويؤدي قطعاً الي تنمية الجنوب.وفي إطار استعدادات وزارته للعملية الانتخابية المقبلة يقول شانغستون: أسست وزارة الاعلام الآن وحدة اعلامية خاصة بتغطية الانتخابات،ونعمل الان علي تدريب هذه الوحدة وتأهيل كوادرها.مؤكداً ان وزارته تدعم النظام الديمقراطي والتعددية الحزبية، وتعمل بشفافية في اطار توفير الحريات الصحفية التي تحافظ علي وتدعم نظام الحكم الرشيد والتحول الديمقراطي.
مضايقات وانتهاكات !! :
بمجرد انتهاء مقابلتي مع السيد وزير الإعلام ، فجعني خبر اعتقال الأستاذ : شارلس ريحان ، رئيس تحرير صحيفة جوبا بوست ، الصحيفة المحلية الرائجة في هذه المدينة.. إستفظاعي لأنتهاك اي حق من الحقوق الانسانية جعلني في وضع الحياد الصعب.. تركت جانباً مهمتي الصحفية ،وحملت انزعاجي وعبء الدفاع عن حق هذا السجين.. أتصلت بعدد من الزملاء الصحفيين من الجنوب والشمال كانوا بمدينة جوبا،واتفقنا علي مخاطبة وزير الاعلام والجهات ذات الصلة لمعرفة ملابسات اعتقال ريحان.إلا إن السلطات كانت قد اطلقت سراحه بعد مضي ساعتين من الاعتقال.
بذلك الانزعاج توجهت ـ برفقة عدد من الصحفيين ـ مباشرة الي مقر صحيفة جوبا بوست لأقف عن قرب علي ملابسات الاعتقال .وجدت الاستاذ شارلس ريحان بمكتبه بالصحيفة ، وكانت السلطات أطلقت سراحه بعد حوالي ساعتين من الاعتقال.
في حديثه معي قال الأستاذ سارلش ان الاعتقال تم علي خلفية نشر الصحيفة لموضوعات تتعلق باحداث الصراع القبلي الذي دار بين مجموعتي الباريا والمنداري، واضاف: هنا في الجنوب توجد صراعات قبلية مؤلمة ، ومعالجة الصحفيين وتناولهم لهذا الموضوع يمكن ان يزعج رجال الأمن والقائمين علي أمره هنا، وقال ريحان: حضر في وقت مبكر من صبيحة اليوم رجال من الشرطة وطلبوا مني ان اذهب معهم لمقر رئاستهم ، وأخبروني بأن هذا الإجراء هو اجراء عادي . لم يحققوا ،ولم يتم توجيه اي اتهام ضدي ،فقط طلبوا مني ان اتجنب الحديث عن موضوع الصراعات القبلية الي حين الوصول لحل هذه الصراعات خصوصاً وان هناك الآن مؤتمرات صلح بين الاطراف المتحاربة.وقال شارلس :هناك حالات نادرة من المضايقات يتعرض لها الصحفيون هنا في الجنوب،، لكن علي كل حال الوضع هنا أفضل ، ولا توجد رقابة علي الصحف .وأفادني الأستاذ شارلس أن اوضاع الحريات الصحفية في الجنوب أفضل بالمقارنة مع بقية أجزاء الوطن الأخري ، وقال : ان غياب القوانين والتشريعات الصحفية والاعلامية يؤثر سلباً علي العمل الصحفي ، لا سيما التشريعات المتعلقة بالحصول علي المعلومات .
تفاؤل برغم التحديات ! :
الإعلام في جنوب السودان يسير الي الامام بخطوات جيدة وواثقة،لان الشعب السوداني في الجنوب كممت أفواهه طويلاً، ولا مجال بعد الآن للصمت.هذا ما قاله للـ(الميدان) السيد ماك مايكا مدير مركز (أمديس) الذي يعمل في مجال تطوير قطاع الاعلام وتدريب الصحفيين.وحصر مايكا مشكلات الصحافة في جنوب السودان بعدم وجود مطابع في الجنوب ، وتفشي الأمية ،وتدني اجور الصحفيين،وغياب التشريعات الاعلامية التي تضمن حق الوصول للمعلومات.ووصف مايكا الاعلام في جنوب السودان بأنه اعلام شعبي ومستقل،وليس اعلاماً حكومياً.مؤكداً عدم وجود اي قيود علي الاعلام في الجنوب.وقال نحن نسعي الآن الي توفير وايجاد مطابع خاصة بالجنوب ونعمل في هذا بشراكة مع اتحاد الصحفيين في الجنوب.ونسعي كذلك الي تطوير مهنة الصحافة وتدريب الصحفيين.وأكد مايكا ان :الصحفي في الجنوب يكتب ما يشاء ،وليس لدينا مجلس للصحافة ولاتوجد شروط أو قيود لممارسة المهنة.
الاستاذ جيمس أوكانجا، مستشار اتحاد الصحفيين بجنوب السودان،قال في حديثه للميدان :يواجه الصحفيين في جنوب السودان بالعديد من التحديات من بينها علي سبيل المثال: ضعف الرواتب،وضعف القدرات،ولايوجد صحفيين محترفين بالمعني ،ويوجد من بين ممارسي مهنة الصحافة من هم موظفين في وزارة الاعلام.واضاف :هذا ما يجعلهم علي معرفة ضئيلة بقوانين الاعلام ،والمواثيق التي تحكم المهنة.وقال أوكاجا ان ما يؤرقهم في اتحاد الصحفيين هو عدم وجود مطابع في جنوب السودان وحتي معينات العمل بالنسبة للصحفيين غير متوفرة.
واكد أوكاجا ان هناك الكثير من المحفزات لتطوير مهنة الصحافة منها عدم وجود رقابة حكومية علي الصحف والصحفيين،مبيناً : ان وضع الحريات في الجنوب أفضل بكثير ، ولا توجد رقابة،ولا خطوط حمراء،ولا رقابة ذاتية،وقال : يمكنك هنا ان تنتقد الحكومة كما تشاء وبحرية تامة دون ان تواجه اي اذي.كما ينشر المسئولين عن التحرير في الصحف هنا اي رسائل تردهم من القراء مهما كانت،وأضاف: أعتقد ان الحريات الصحفية هنا في الجنوب تأثرت بشكل واضح بالحريات المتوفرة في دول الجوار الافريقي كينيا ويوغندا.
الصحفية الشابة إيستا موومبي،المحررة بصحيفة جوبا بوست،قالت في حديثها للميدان ان من اكبر المشاكل التي تواجه الصحفيين الشباب هي ضعف المرتبات،وعدم تمكنهم من الوصول للمعلومات،بجانب ذلك يواجه الصحفيين الشباب مشكلة عدم نشر معظم تقاريرهم وكتاباتهم ويعزون ذلك الي عدم توفر الخبرات للصحفيين الشباب.
توقيف وتعطيل الصحفيين !:
قبل ان اكمل مهمتي الصحفية بمدينة جوبا،وأثناء تجوالي وزميلي الصحفي عادل بدر علي في أحد أسواق المدينة أوقفتنا استخبارات الشرطة العسكرية ، واقتادتنا الي مقر رئاسة الاستخبارات العسكرية ، وهناك تم تفتيشنا واغلاق اجهزة الاتصال الخاصة بنا ومكثنا في ذلك المبني لما يقارب الساعتين.وعقب اطلاق سراحنا قمنا بالاتصال بمسئولين حكوميين وأخبرناهم بما حدث.الا ان حكومة الجنوب لم تبلغ اعتذارها لاي من الصحفيين الذين قامت الاجهزة الأمنية بمضايقتهم..وتكررت حالات المضايقات هذه لعدد من الصحفيين من بينهم الزميلة بأجراس الحرية أمل هباني.
بالرغم من المضايقات والاعتقالات التي يتعرض لها الصحفيون في الجنوب ، وبالرغم من المشكلات التي يواجهها قطاع الإعلام ، إلا إنه يمكن القول بشئ من التفاؤل إن الإعلام في الجنوب قطاع ينمو ويزدهر في ظل اوضاع اقتصادية واجتماعية وسياسية قاسية الا ان توفر ارادة العمل الجاد لدي الصحفيين تجعل امكانية تطور هذا القطاع الحيوي ممكنة وتسير بخطي واثقة نحو الامام. حكومة الجنوب تتفهم مشكلات قطاع الاعلام وتعمل علي دعم ايجاد الحلول لها الا ان سطوة العسكريين في شوارع جوبا تجعل من تعهدات حكومة الجنوب حبراً علي ورق .. فهل يا تري ستعمل حكومة الجنوب علي تقنين سلطة العسكر وتمديد نفوذ الاعلام ليعالج ما تبقي في النفوس من مرارات الحرب ... ؟ .... ذلك أملنا .
الجمعة، 17 يوليو 2009
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق